فصل: قال ابن عادل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد بلاغية:

قال في صفوة التفاسير:
البلاغة:
1- {وما أنفقتم من نفقة} بين أنفقتم ونفقة جناس يسمى جناس الاشتقاق، وكذلك بين نذرتم ونذر جناس، وهو من المحسنات البديعية.
2- {إن تبدوا الصدقات} في الإبداء والإخفاء طباق لفظي، وكذلك بين لفظ الليل والنهار والسر والعلانية وهو من المحسنات البديعية.
3- {وأنتم لا تظلمون} إطناب لورودها بعد قوله: {يوف إليكم} الذي معناه يصلكم وافيا غير منقوص. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

.قال ابن عادل:

قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ} الآية: في تعلُّق هذا الجارِّ خمسة أوجهٍ:
أحدها:- وهو الظاهر- أنه متعلِّق بفعل مقدرٍ، يدلُّ عليه سياق الكلام، واختلفت عبارات المعربين فيه، فقال مكي- ولم يذكر غيره-: «أَعْطُوا لِلْفقراءِ»، وفي هذا نظرٌ؛ لأنه يلزم زيادة اللام في أحد مفعولي أعطى، ولا تزاد اللام إلا لضعف العامل: إمَّا بتقدُّم معموله كقوله تعالى: {لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف: 43]، وإمَّا لكونه فرعًا؛ نحو قوله تعالى: {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [هود: 107] ويبعد أن يقال: لمَّا أُضمر العاملن ضعف؛ فقوي باللام، على أنَّ بعضهم يجيز ذلك، وإن لم يضعف العامل، وجعل منه {رَدِفَ لَكُم} [النمل: 72]، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وقدَّره أبو البقاء: اعْجَبُوا لِلْفُقَرَاءِ وفيه نظرٌ، لأنه لا دلالة من سياق الكلام على العجب. وقدَّره الزمخشريُّ: اعْمدُوا، أو اجعلوا ما تُنْفقون للفقراء والأحسن من ذلك ما قدَّره مكي، لكن فيه ما تقدَّم.
الثاني: أنَّ هذا الجارَّ خبر مبتدأ محذوف، تقديره: الصدقات أو النفقات التي تنفقونها للفقراء، وهو في المعنى جوابٌ لسؤالٍ مقدَّر، كأنهم لما حثُّوا على الصدقات، قالوا: فلمن هي؟ فأجيبوا بأنها لهؤلاء، وفيها بيان مصرف الصَّدقات. وهذا اختيار ابن الأنباري.
الثالث: أنَّ اللام تتعلَّق بقوله تعالى: {إِن تُبْدُواْ الصدقات} [البقرة: 271] وهو مذهب القفَّال، واستبعده الناس؛ لكثرة الفواصل.
الرابع: أنه متعلِّقٌ بقوله تعالى: {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ} وفي هذا نظرٌ؛ من حيث إنه يلزم فيه الفصل بين فعل الشرط وبين معموله بجملة الجواب، فيصير نظير قولك: مَنْ يُكْرِمْ أُحْسِنْ إليه زيدًا. وقد صرَّح الواحديُّ بالمنع من ذلك، معلِّلًا بما ذكرناه، فقال: وَلاَ يجوزُ أن يكون العاملُ في هذه اللام {تنفقوا} الأخير في الآية المتقدمة الكريمة؛ لأنه لا يفصل بين العامل، والمعمول بما ليس منه، كما لا يجوز: كانَتْ زَيْدًا الحُمَّى تأخُذُ.
الخامس: أنَّ للفقراء بدلٌ من قوله: فلأَنْفُسِكُمْ، وهذا مردودٌ؛ قال الواحدي، وغيره: لأنَّ الإنفاق من حيث هو واصلٌ إليهم، وليس من باب {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]؛ لأنَّ الأمر لازمٌ للمستطيع خاصةً قال شهاب الدين رحمه الله تعالى: يعني أنَّ الفقراء ليست هي الأنفس، ولا جزاءً منها، ولا مشتملةً عليها، وكأن القائل بذلك توهَّم أنه من باب قوله تعالى: {وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] في أحد التأويلين.
قوله: {فِي سَبِيلِ} في هذا الجار وجهان:
أحدهما: أن يتعلَّق بالفعل قبله؛ فيكون ظرفًا له.
والثاني: أن يكون متعلِّقًا بمحذوف على أنه حال من مرفوع {أُحصروا}، أي: مستقرين في سبيل الله. وقدَّره أبو البقاء بمجاهدين في سبيل الله، فهو تفسير معنًى لا إعراب؛ لأنَّ الجارَّ لا يتعلَّق إلا بالكون المطلق.
قوله تعالى: {لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأرض} في هذه الجملة احتمالان:
أظهرهما: أنها حالٌ، وفي صاحبها وجهان:
أحدهما: أنه الفقراء، وثانيهما: أنه مرفوع أُحْصِرُوا.
والاحتمال الثاني: أن تكون مستأنفة لا محلَّ لها من الإعراب؛ وضَرْبًا مفعولٌ به، وهو هنا السفر للتجارة؛ قال: الوافر:
لَحِفْظُ المَالِ أَيْسَرُ مِنْ بَقَاهُ ** وَضَرْبٌ في البِلاَدِ بِغَيْرِ زَادِ

ويقال: ضَرَبْتُ في الأَرْضِ ضَرْبًا، ومَضْرِبًا، أي: سرتُ.

.فصل في بيان عدم الاستطاعة في الآية:

عدم استطاعتهم: إمَّا أن يكون لاشتغالهم بصلاح الدِّين، بأمر الجهاد؛ فيمنعهم من الاشتغال بالكسب والتجارة، وإمَّا لخوفهم من الأعداء، وإمَّا لمرضهم، وعجزهم؛ وعلى جميع الوجوه فلا شكَّ في احتياجهم إلى من يعينهم.
الصفة الثالثة: قوله: {يَحْسَبُهُمُ} يجوز في هذه الجملة ما جاز فيما قبلها من الحالية والاستئناف، وكذلك ما بعدها.
قوله: {مِنَ التعفف} في مِنْ هذه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها سببيةٌ، أي: سَبَبُ حُسْبَانِهم أغنياء تعفُّفهم، فهو مفعولٌ من أجله، وجرُّه بحرف السبب هنا واجبٌ، لفقد شرطٍ من شروط النصب، وهو اتحاد الفاعل، وذلك أنَّ فاعل الحسبان الجاهل، وفاعل التعفُّف هم الفقراء، ولو كان هذا المفعول له مستكملًا لشروط النصب، لكان الأحسن جرَّه بالحرف؛ لأنه معرَّفٌ بأل، وقد تقدَّم أنَّ جرَّ هذا النوع أحسن من نصبه؛ نحو: جئت للإكرام، وقد جاء نصبه؛ قال القائل: الرجز:
لاَ أَقْعُدُ الجُبْنَ عَنِ الهَيْجَاءِ ** وَلَوْ تَوَالَتْ زُمَرَ الأَعْدَاءِ

والثاني: أنها لابتداء الغاية، والمعنى أنَّ محسبة الجاهل غناهم، نشأت من تعفُّفهم؛ لأنه لا يحسب غناهم غنى تعففٍ، إنما يحسبه غنى مالٍ، فقد نشأت محسبته من تفُّفهم، وهذا على أنَّ تعفُّفهم تعففٌ تام.
والثالث: أنها لبيان الجنس، وإليه نحا ابن عطية، قال: يكون التعففُ داخلًا في المحسبة، أي: إنه لا يظهر لهم سؤالٌ، بل هو قليلٌ، فالجاهل بهم مع علمه بفقرهم يحسبهم أغنياء عنه، فمِنْ لبيان الجنس على هذا التأويل.
قال أبو حيَّان: وليس ما قالَه مِنْ أنَّ مِنْ هذه في هذا المعنى وهو أن تتقدَّر مِنْ بموصولٍ، وما دخلت عليه يجعل خبر مبتدأ محذوف؛ كقوله تعالى: {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} [الحج: 30] يصح أن يقال: الذي هو الأوثان، ولو قلت هنا: {يَحْسَبُهُم الجَاهِلُ أغنياء الَّذِي هُوَ التَّعفف} لم يصحَّ هذا التقدير؛ وكأنه سمَّى الجهة التي هم أغنياء بها بيان الجنس، أي: بيَّنت بأيِّ جنسٍ وقع غناهم، أي: غناهم بالتعفف لا غنى بالمال، فسمَّى مِنْ الداخلة على ما يبيِّن جهة الغنى ببيان الجنس، وليس المصطلح عليه كما قدَّمناه، وهذا المعنى يؤول إلى أنَّ مِنْ سببية، لكنها تتعلق بأغنياء، لا بيحسبهم. انتهى.
وتتعلَّق مِنْ على الوجهين الأولين بيحسبهم. قال أبو البقاء رحمه الله: ولا يجوزُ أن تتعلَّق بمعنى أغْنِياء؛ لأنَّ المعنى يصير إلى ضد المقصود، وذلك أنَّ معنى الآية: أنَّ حالهم يخفى على الجاهل بهم؛ فيظنُّهم أغنياء، ولو علِّقت بأغنياء، صار المعنى، أنَّ الجاهل يظنُّ أنهم أغنياء، ولكن بالتعفف، والغنيُّ بالتعفف فقيرٌ من المال. انتهى، وما قاله أبو البقاء يحتمل بحثًا.
وأما على الوجه الثالث- وهو كونه لبيان الجنس- فقد صرَّح أبو حيان بتعلُّقها بأغنياء؛ لأن المعنى يعود إليه، ولا يجوز تعلُّقها في هذا الوجه بالحسبان، وعلى الجملة: فكونها لبيان الجنس، قلق المعنى.
قوله: {لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافًا} في نصبه إلحافًا ثلاثة أوجه:
أحدها: نصبه على المصدر بفعلٍ مقدَّر، أي: يلحفون إلحافًا، والجملة المقدرة حالٌ من فاعل يَسْألون.
والثاني: أن يكون مفعولًا من أجله، أي: لا يسألون؛ لأجل الإلحاف.
والثالث: أن يكون مصدرًا في موضع الحال، تقديره: لا يسألون ملحفين. اهـ. بتصرف.

.من لطائف الفيروزابادي:

قال رحمه الله:
الفقر: ضدّ الغِنى.
ووقع في القرآن لفظ الفقر في أَربعة مواضع:
أَحدها- قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ}، أي الصَّدقاتُ لهؤلاءِ، وكان فقراءُ المهاجرين نحو أَربعمائة لم يكن لهم مساكن في المدينة ولا عشائر، وكانوا قد حبسوا أَنفسَهم على الجهاد، وكانوا وَقْفًا على كلِّ سريَّه يبعثها رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهم أَهل الصُّفَّة. هذا أَحد الأَقوال في إِحصارهم في سبيل الله. وقيل: هو حبْسهم أَنفسهم في طاعة الله. وقيل: حَبَسهم الفقر والعُدْم عن الجهاد. وقيل: لَمَّا عادَوا أَعداء الله وجاهدوهم أُحصِروا عن الضرب في الأَرض لطلب المعاش، فلا يستطيعون ضربًا في الأَرض. والصَّحيح أَنه لفقرهم وعجزهم وضعفهم لا يستطيعون ضرباَ في الأَرض، ولِكمَال عفَّتهم وصيانتهم يحسبهم من لم يعرف حالهم أَغنياء.
والموضع الثانى- قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} الآية.
والموضع الثالث- قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ}.
والموضع الرابع- قال الله تعالى: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}.
والصّنف الأَول خواصّ الفقراءِ، والثَّانى فقراءُ المسلمين خاصّهم وعامّهم، والثالث الفقر العامّ لأَهل الأَرض كلِّهم غنيّهم وفقيرهم، مؤمِنهم وكافرهم. والرابع الفقر إِلى الله المشار إِليه بقوله: اللَّهم أَغْنِنى بالافتقار إِليك. وبهذا أَلَمَّ الشاعر:
ويعجبنى فقرى إِليك ولم يكن ** ليعجبنى لولا محبَّتُك الفقرُ

والفقراءُ الموصوفون في الآية الأُولى يقابلهم أَصحاب الجِدَة، ومن ليس محصَرًا في سبيل الله، ومن لم يكتم فقرًا وضعفًا. فمقابلهم أَكثر من مقابل الصّنف الثانى. والصّنف الثانى يقابل أَصحاب الجِدَة، ويدخل فيهم المتعفِّف وغيره، والمحصَر وغيره. والصَّنف الثالث لا مقابل لهم، بل الله وحده الغنىّ وكلُّ ما سواه فقير إِليه.
ومراد المشايخ بالفقر شئ أَخصُّ من هذه كلّها وهو الافتقار إِلى الله في كلِّ حالة. وهذا المعنى أَجلّ من أَن يسمَّى فقرًا، بل هو حقيقة العبوديَّة ولُبّها، وعَزْل النفس عن مزاحمة الرُّبوبيَّة.
وسئل عنه يحيى بن مُعَاذ الرازىّ فقال: حقيقته أَلاَّ يستغنى إِلاَّ بالله، ورَسْمه عدم الأَسباب كلّها. وقال بعض المشايخ: الفقر سرّ لا يضعه الله إِلاَّ عند من يحبّه، ويسوقه إِلى مَن يريد. وقال: رُوَيم: إِرسال النَّفس في أَحكام الله. وسئل أَبو حفص بم يقدَم الفقير على ربِّه؟ فقال: ما للفقير أَن يقدَم به على ربّه سوى فقره. وسئل بعضهم: متى يستحق الفقير اسم الفقر؟ قال إِذا لمّ يبق عليه منه بقيّة. فقيل له: وكيف ذاك؟ فقال: إِذا كان له فليس له، وإِذا لم يكن له فهو له. وهذه من أَحسن العبارات عن معنى الفقر الذي يشير إِليه القوم، وهو أَن يصير كلُّه لله لا يبقى عليه بقيَّة من نفسه وحظِّه وهواه، فمن بقى عليه شئ من أَحكام نفسه ففقره مدخول. ثم فسّر ذلك أي قوله: إِذا كان له فليس له، أي إِذا كان لنفسه فليس لله، وإِذا لم يكن لنفسه فهو لله. فحقيقة الفقر إِذًا أَلاَّ تكون لنفسك ولا يكون لها منك شئ بحيث تكون كلُّك لله. وهذا الفقر الذي يشيرون إِليه لا ينافيه الجدَة ولا الأَملاك، فقد كان رُسُل الله وأَنبياؤه- صَلوات الله وسلامه علَيهم- في ذروة الفقر مع جدتهم ومِلكهم، كإِبراهيم الخليل عليه السَّلام كان أَبا الضِّيفان، وكانت له الأَموال والمواشى، وكذلك كان سليمان وداود، وكذلك كان نبيّنا صلَّى الله عليه وسلَّم كما قال تعالى: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى}، وكانوا أَغنياءَ في فقرهم، فقراءَ في غناهم.
فالفقر الحقيقىُّ: دوام الافتقار إِلى الله تعالى في كلِّ حال، وأَن يشهد العبد في كلِّ ذرّة من ذرَّاته الظَّاهرة والباطنة فاقة نامية إِلى الله تعالى من كلِّ وجه. فالفقر ذاتىّ للعبد، وإِنما يتجدَّد له بشهوده حالًا، وإِلاَّ فهو حقيقته؛ كما قال بعض المشايخ:
الفقر لى وصفُ ذاتٍ لازمٌ أَبدا ** كما الغِنَى أَبدا وصفٌ له ذاتى

وله آثار وعلامات وموجِبات، أَكثر إِشارات القوم إليها، كقول بعضهم الفقير لا يسبق همَّته، أي ابن وقته، فهمَّته مقصورة على وقته لا يتعدَّاه. وقيل: أَركان الفقر أَربعة: عِلْم يسوسه، وورع يحجزه، ويقين يحمله، وذِكْر يؤنسه. وقال الشِّبلِىّ: حقيقة الفقر أَلاَّ يستغنى بشئ دون الله. وسئل سهل: متى يستريح الفقير؟ فقال: إِذا لم ير لنفسه غير الوقت الذي هو فيه. وقال أَبو حفص: أَحسن ما يتوسَّل به العبد إِلى الله دوام الافتقار إِليه على جميع الأَحوال، وملازمة السُنَّة في جميع الأَفعال، وطلب القُوت من وجه حلال. وقيل: مِن حكم الفقير أَلاَّ يكون له رغبة، فإِن كان ولابد فلا يجوز رغبتُه كفايتَه. وقيل: الفقِير من لا يَملك ولا يُمْلَك. وأَتمّ من هذا: لا يَملك ولا يملكه مالك. وقيل: من أَراد الفقر لشرفه مات فقيرًا، ومن أَراده لئلا يشتغل عن الله بغيره مات غنيّا.
والفقر له بداية ونهاية، فبدايته الذلُّ ونهايته العزّ، وظاهره العُدْم وباطنه الغِنى، كما قال رجل لآخر، الفقر فقر وذلّ، فقال، لا: بل فقر وعِزّ. فقال: فقر وثرًى. فقال: لا، بل فقر وعَرْش. وكلاهما مصيب.
واتَّفقت كلمةُ القوم على أَن دوام الافتقار إِلى الله مع تخليط خير من دوام الصَّفاء مع رؤية النَّفس والعُجْب، مع أَنه لا صفاءَ معهما.
وإِذا عرفت معنى الفقر عرفت عين الغنى بالله تعالى فلا معنى لسؤال من سأَل: أي الحالين أَكمل؟ الافتقار إِلى الله أَم الاستغناء به؟ هذه مسأَلة غير صحيحة، فإِنَّ الاستغناء به هو عين الافتقار إِليه.
وأَمَّا مسأَلة الفقير الصَّابر، والغنىّ الشاكر، وترجيحُ أَحدهما، فعند المحقِّقين أَن التفضيل لا يرجع إِلى ذات الفقْر والغِنَى، وإِنما يرجع إِلى الأَعمال والأَحوال والحقائِق. فالمسْأَلة فاسدة في نفسها، وإِنَّ التفضيل عند الله بالتَّقوى وحقائِق الإِيمان، لا بفقر ولا غِنى، قال: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} ولم يقل: أَفقركم أَو أَغناكم.
ثمّ اعلم أَنَّ الفَقْر والغِنَى ابتلاء لعبده كما قال تعالى: {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ كَلاَّ} أي ليس كلّ من أَعطيتهُ ووسَّعت عليه فقد أَكرمته،،لا كلُّ من ضيَّقت عليه وقَتَرت عليه الرزق فقد أَهنته والإِكرام أَن يكرم العبد بطاعته ومحبَّته ومعرفته، والإِهانة أَن يسلبه ذلك. ولا يقع التفاضل بالغنى والفقر بل بالتقوى. وقال بعضهم: هذه المسأَلة محال أَيضًا من وجه آخر، وهو أَنَّ كًّلا من الغنىّ والفقير لابد له من صبر وشكر، فإِنَّ الإِيمان نصفان: نصفٌ صبر، ونصفٌ شكر. بل قد يكون قسط الغنِىّ من الصَّبر أَوفى، لأَنه يصبر عن قدرة، فصبره أَتمّ من صبر من يصبر عن عجز، ويكون شكر الفقير أَتمّ، لأَن الشكر هو استفراغ الوسع في طاعة الله، والفقير أَعظم فراغا بالشكر من الغنِىّ. وكلاهما لا يقوم قائمة إِيمانه إِلا على ساق الصَّبر والشكر.
نعم الذي رجع الناس إِليه في المسأَلة أَنَّهم ذكروا نوعا من الشكر، ونوعا من الصَّبر، وأَخذوا في التَّرجيح، فجردوا غنيًّا مُنفقًا متصدِّقًا باذلا ماله في وجوه القُرَب، شاكرًا الله عليه؛ وفقيرا متفرِّغًا لطاعة الله ولأوراد العبادات، صابرًا على فقره، هل هو أَكمل من ذلك الغنى أَم بالعكس. فالصَّواب في مثل هذا أَنّ أَكملهما أَطوعهما، فإِن تساوت طاعتهما درجتهما والله أَعلم.
والعرب نقول: سَدً الله مَفاقِره، أي وجوه فقره. ويقال: افتقر فهو مفتقِر وفقير، ولا يكاد يقال: فَقُر. وإِن كان القياس يقتضيه.
وأَصل الفقير هو المكسور الفَقَار. عَمِل به الفاقرةَ أي الدَّاهية التي كسرت فَقَاره. وأَفقرك الصَّيدُ: أَمكنك عن فقاره. أَفْقَرته ناقتى: أَعرته فَقَارها للركوب، وما أَحسن قول الزَّمخشرى:
أَلاَ أَفقر الله عبدًا أَبَتْ ** عليه الدّناءة أَن يُفْقِرَا

ومن لا يُعبر قَرا مَرْكَبٍ ** فقل كيف يَعقِره للقِرَى

وما أَحسن فِقَر كلامه، أي نُكته، وهى في الأَصل حُلِىّ تصاغ على شكل فِقَر الظهر. اهـ.